
لم يكد غبار معركة “سيف القدس” الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية -وعلى رأسها حركة حماس في غزة- والكيان الإسرائيلي ينقشع حتى انهالت الانتقادات، بل ما يلامس الشتم والقذف من طائفة لا أستطيع تحديد حجمها وتأثيرها من الإخوة السوريين تجاه المقاومة وحماس مع كيل اتهامات صريحة للمقاومة بأنها “صارت شريكة في سفك الدم السوري”.
كل هذا جاء ممزوجا بشعارات وعناوين، منها أن السوريين رغم جرحهم النازف وظرفهم القاسي فإنهم لم ينسوا فلسطين لحظة، واعتبروا قضيتها هي قضيتهم، وأنهم شركاء في المأساة، مأساة الاحتلال والتشريد، ومأساة الظلم والاستبداد والإجرام، وها هم اليوم يرون الفلسطيني يشكر ويحتفي بمن قام بدعم ومساندة من قتل السوريين، أي إيران.
وازدادت حمى الهجمات من قبل هذه الطائفة السورية بعد تصريحات القيادي في حماس أسامة حمدان الذي توجه بالشكر إلى بشار الأسد في مقابلة تلفزيونية.
وهنا وجب وضع النقط فوق الحروف كي لا نظل في جدل عقيم أشبه بطحن الماء وننسى المعركة الحقيقية والأهم مع المشروع الصهيوني وننشغل في مناكفات جانبية استنزافية.
شامي الهوى
أحب أن أقول إنني “شامي الهوى، والهوى شامي”، فنحن نرتبط بسوريا بروابط اجتماعية وسياسية وثقافية كثيرة التشابك عالية الكثافة، كيف لا وفلسطين كان يشار إليها قبل المشروعات الاستعمارية بأنها “سوريا الجنوبية؟!”، فسوريا وفلسطين ليستا قطرين شقيقين بل شيء واحد، ولا أقول هذا على سبيل إطلاق شعارات عاطفية رنانة، بل تلك حقيقة مؤكدة لا يجادل فيها إلا جاهل أو مغرض.
وفي الوقت الذي خضع فيه الجمهور المصري مثلا إلى عمليات برمجة وعي مركزة لتنمية الشعور “بالشوفينية الوطنية” -حتى في زمن جمال عبد الناصر الذي رفع شعارات القومية العربية- تم شن حملات إعلامية معادية للمقاومة الفلسطينية عبر مختلف الأزمنة والعهود السياسية في مصر، إذا كانت قد انتهت بحركة حماس فلربما بدأت بحركة فتح، خاصة ضد الرجل الثاني فيها في وقته (صلاح خلف-أبو إياد)، مع أسلوب خبيث يستبعد ويتناسى العدو والاحتلال.
ناهيك عن مناهج دراسية وبرامج إعلامية وثقافية لم تخصص لقضية فلسطين حقها من التوعية والتوجيه والاهتمام، اللهم إلا بمنظور توجهات النظام الحاكم الآنية، وكما نعلم فقد تغيرت تلك التوجهات منذ حوالي 50 سنة، أي أن جيلين مصريين تقريبا خضعا لتلك البرمجة التجريفية للوعي.
وفي كل تلك الأوقات كانت سوريا بغض النظر عن النظام الحاكم فيها تجعل القضية الفلسطينية محورية ومركزية وتدفع نحو الاهتمام الشعبي بها، حتى لو اختلفت أو تخاصمت أو تقاتلت مع جهة فلسطينية معينة كانت تحتضن جهة أخرى، دون إظهار العداء للشعب الفلسطيني مثلما فعل آخرون.
وقبل استقلال وتحرر سوريا من الاحتلال الفرنسي حضر الشيخ عز الدين القسام الذي لا داعي للتذكير بمكانته في الوعي الفلسطيني والسوري وصولا إلى العربي والإسلامي إلى فلسطين، ليجاهد الغزاة فيها بعدما جاهد غزاة مسقط رأسه في الساحل السوري، وليقضي شهيدا على أرضها ويحتضن ثراها جثمانه الطاهر.
بل لا نبالغ إذا قلنا إن سوريا اعتبرت نفسها وصية على فلسطين بحكم العلاقة الجيوسياسية، ويحق لها ما لا يحق لغيرها من الأقطار العربية في ما يتعلق بالملف الفلسطيني وتفصيلاته.
وهذا الأمر خلق نوعا من الوعي الجماهيري في سوريا بتفصيلات القضية الفلسطينية الدقيقة، والتفاعل مع مجريات الأحداث لا تجده إلا في سوريا ولبنان اللذين فيهما أعداد من اللاجئين الفلسطينيين النشطين عموما.
العتب أكبر
من أجل ذلك وغيره فإن العتب على الإخوة السوريين أكبر مما قد يلام فيه غيرهم، وهو عتب يعلوه استغراب من هذا التحريض والقذف الذي لمسناه من طائفة منهم، فالمقاومة الفلسطينية وحركة حماس لم تناصرا المذابح التي ارتكبها النظام وحلفاؤه في سوريا، باستثناء مجموعات قليلة العدد محصورة التأثير محدودة الوجود في الداخل الفلسطيني.
أما القول الممجوج بأن شكر إيران على دعمها هو مشاركة في سفك الدم السوري فآخر من كنا نفترض أن نسمع منهم هذه الافتراءات هم الإخوة السوريون، للأسباب التي ذكرت وأسباب أخرى لا مجال لذكرها.
التحالف مع إسرائيل!
ينبغي أن نذكّر الإخوة السوريين الذين يلومون بل يشتمون حماس بسبب العلاقة مع إيران بأن فئات وشخصيات من المعارضة السورية طلبت علنا دعما إسرائيليا في صراعها مع نظام الأسد، بل تجاوزت بعضها الخطوط الحمراء وزارت الكيان والتقت بزعمائه وإعلامه.
ولا أتهم من يلومون حماس اليوم على وجه التعميم والإطلاق بأنهم من هذا النوع الذي يرى جواز هذا التحالف الشاذ مع إسرائيل، ولكن أولئك كانوا أولى بالنقد والتقريع والنبذ.
معارضو مصر ومعارضو سوريا
لقد صدرت عن حركة حماس تصريحات عدة تشكر النظام المصري، واستقبلت وفوده الأمنية والإعلامية بحفاوة في غزة، وعلقت صور السيسي في شوارع غزة، ولم نسمع من الإخوة المصريين عتبا كثيرا أو كبيرا، هذا في الوقت الذي تكتظ فيه السجون المصرية بالمعارضين المصريين، وسوادهم الأعظم من الإخوان المسلمين وأنصارهم والمتعاطفين معهم، كما أن مشاهد المجازر البشعة في رابعة والنهضة والحرس الجمهوري ما زالت حاضرة في الذاكرة وإذا غابت فإن “الميديا” تذكرنا بها، وموت الرئيس المنتخب في سجنه مظلوما بعد الانقلاب عليه ما زال غصة في الحلق.
وكأن العالم بشرقه وغربه قد تواطأ على استئصال الإخوان وتجريمهم وسحقهم وشطبهم العنيف من المشهد المصري بلا رحمة، فنرى مع ذلك تفهما بل تقبلا من المعارضة المصرية عموما لهذه العلاقة بين حماس ونظام السيسي، وإذا كان ثمة لوم أو عتب فهو في غاية التهذيب والخجل ويستند إلى التحذير من الغدر والطعن في الظهر، وليس مبنيا على قاعدة “أنتم تتحالفون وتضعون يدكم في يد من قتلنا”.
هذا مع التنويه إلى ما أشرت إليه في سطور سابقة بأن اطلاع المصريين -بمن فيهم النخب المهتمة- على خبايا وتفصيلات القضية الفلسطينية أقل بكثير من السوريين الذين انبرت طائفة منهم تشير بأصابع الاتهام إلى حماس وغزة، وترمي القوم بشتى التهم البعيدة عن التفكير -مجرد التفكير- بالتماس العذر للأخ، فشتان هنا ما بين الموقفين.
السوريون ضربوا وضُربوا
لم يخسر النظام المصري في صراعه -الذي يبدو على الأقل حاليا أنه حسمه لصالحه- مع الإخوان شيئا يذكر، خاصة أن الإخوان انتهجوا الأسلوب السلمي في صراعهم معه، ولا توجد داخل مصر “مناطق آمنة” للمعارضة.
هذا بعكس الحالة أو الوضع في سوريا، حيث إن ثمة مناطق تقع خارج سيطرة النظام تماما، وتعمل وتنشط فيها المعارضة بحرية تامة.
كما أن المعارضة السورية وإن كانت قد خسرت في منازلتها العسكرية مع النظام بسبب الدعم الخارجي له -خاصة من روسيا وإيران- فإنها أثخنت في قوات النظام ومؤسساته وهزت أركانه، بل خلخلتها وألحقت به خسائر فادحة يستبعد أن يتعافى منها في المدى المنظور، وهو وإن أعلن “انتصاره” فإنه لم يحسم الصراع لصالحه، ولن يحسمه على الأغلب.
أي يمكن القول لمن يلوم ويهاجم من الإخوة السوريين: أنتم أيضا كنتم في صراع دموي مع النظام حتى لو قلتم إنه دفاع مشروع عن النفس.
ولكنكم قتلتم وقُتلتم، وضربتم وضُربتم، وأسرتم وأُسرتم، وكان لكم عون وظهير خارجي كبير، خاصة في سنوات الأزمة الأولى، وهو ما لم يكن متاحا وما زال غير متاح للمقاومة الفلسطينية سياسيا وعسكريا وماليا وإعلاميا.
دعوة إلى التعلم من المصريين
فهلا تعلمتم من إخوتكم في مصر الذين تلقوا الضربات العنيفة وذبحوا في الشوارع والميادين وزج بهم في السجون، دون أي نقطة مشابهة في مرمى النظام عندهم، ومع ذلك تراهم يتفهمون ويلتمسون العذر لإخوتهم في حماس وفلسطين.
ومن جهة أخرى، حبذا لو حاولتم أن تفهموا السياسة بمنظور يتجاوز قليلا العواطف ومنطق “أبيض-أسود”، فإيران التي دعمت النظام الذي وقف إلى جانب من ثرتم على ظلمه وفساده وطغيانه هي التي قدمت للمقاومة الفلسطينية دعما لم تنل بموازاته من دول العرب والمسلمين إلا التفرج أو التعاطف السلبي أو النكران والجحود وصولا إلى الهرولة نحو التطبيع، بل حتى التحالف مع الصهيونية بأقبح الصور التي سيخجل قارئ التاريخ مستقبلا منها.
ومع ذلك أقول: سامحكم الله ورحم الله شهداءنا وشهداءكم، ورد الله المشردين والمهجرين منا ومنكم إلى ديارهم، ونسأله أن يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف عاجلا غير آجل.
نقلا عن الجزيرة