مقالات مختارة
قضوا على “الوزارة والنقابة” واحتكروا صناعة الدواء.. كيف سيطر العسكريون على قطاع الصحة المصري؟
أحمد سلطان

منذ الـ 3 من يوليو/تموز 2013 وتبعاتها السياسية، وقد قرر العسكريون أن يحكموا قبضتهم على كل القطاعات الحيوية في مصر. من القانون والسلطة والدستور إلى الإعلام والرياضة.
ومن المشروعات القومية التي تستهدف إعادة صياغة الديموغرافيا المصرية على أساس أمني رأسمالي، كما يحدث في مشروعات شمال شرق البلاد وشمال غربها، إلى إيكال مراقبة حركة البناء والعمران ومراقبة الحكم المحلي إلى العسكريين من الرتب المتوسطة. لم يعد الأمر مقتصراً على رزمة المناصب التنفيذية التي كان يحصل عليها العسكريون إبان حكم مبارك. فكل تفصيلة وكل صغيرة وكبيرة بات للعسكريين يدٌ بها.
في خضم ذلك، فإن أحد القطاعات الحيوية التي أحكم العسكريون تدريجياً قبضتهم عليها، خلافاً لما يروج عن التخارج الطوعي للعسكريين من تلك المناصب والقطاعات، هو قطاع الصحة، والذي يشمل: الإدارة والإنشاءات والكوادر البشرية المدربة والصناعة والبنية التشريعية والقانونية.
في الأعوام الأخيرة تلك، تعرّض المصريون إلى بعض الومضات عن تغول العسكريين على ذلك القطاع ونتائج أفكارهم الخلاقة فيه، مثل قضية حليب الأطفال باهظ الثمن، ومشروع علاج “الإيدز” بالجهاز السحري للضابط المريب، وبعض السلاسل الصيدلية التي قيل إنها تابعة للجيش من الباطن، وصولاً إلى محاولة إجبار الصيادلة على العمل “أطباء” في ذروة كورونا.
ومع ذلك، يبدو أن مساعي العسكريين وخططهم للاستحواذ على ذلك القطاع تجاوزت تلك القضايا الصغيرة، لكي تشمل إحكام السيطرة على القطاع الصحي بشكل شبه كامل، بغض النظر عن النتائج السلبية المحتمل حدوثها من هذا التجريف والإحلال القسري على الخدمات الصحية المقدمة للمصريين.
لقاء خاص مع لواء ابراهيم عبدالعاطي
مدينة الدواء
تحت شعار ضرورة توطين الصناعات الدوائية المهمة في السوق المصري، بل والولوج إلى مجال تصنيع المواد الخام وتصدير الفوائض الدوائية المصرية إلى دول الجوار لتوفير وتدبير مزيد من العملة الصعبة، دشن السيسي ولفيف من القيادات العسكرية والحكومية ما أطلق عليه، قبل عام تقريباً، مدينة الدواء المصرية الأضخم في الشرق الأوسط.
بالرغم من ضخامة المشروع الذي قال السيسي أيضاً إنه يستهدف تدبير احتياجات البلاد من الأدوية ذات الأولوية، مثل أدوية الأمراض المزمنة، والذي يقع على مساحة 180 ألف متر مربع في القليوبية، إلا أن التغطيات الرسمية والاجتهادات التحليلية خلت تقريباً من الوصول إلى جوهر هذا المشروع وتبعاته الحقيقية المنتظرة على سوق الدواء المصري.
فبعد الإشادة بفكرته والإشارة إلى الأرقام الرئيسة عن محاوره، كتطلُّعه إلى إنتاج 30 مليون عبوة دواء مختلفة سنوياً، واعتماده على أحدث التقنيات غير البشرية في عملية التصنيع، اكتفت المصادر الحكومية بالحديث عما سمته “جهود الدولة لتوفير الدواء المهم للمصريين”، دون بسط شفاف للجهات القائمة على المشروع.
ولكن وفي ثنايا الأخبار، نجد، بالإضافة إلى الحضور العسكري اللافت في افتتاح المشروع، وتبنيه إعلامياً من الجهات الدعائية التابعة مباشرة للجيش، حضوراً شرفيّاً لاسم أحد الضباط الراحلين الذي نسب إليه السيسي الفضل في تبني المشروع قبل عدة أعوام، وهو لواء يدعى صلاح الشاذلي.
بالبحث عن اسم اللواء المذكور، في ظل غياب المعلومات الضرورية التي تهم الرأي العام عن طبيعة هذا المشروع العملاق، مع كل التقدير للمعلومات الفنية التي ذكرت عن مساحته وتكلفته المهولة، فإننا سنجد أنه – وفقاً للمتداول – ضابط سابق مرموق في جهاز المخابرات الحربية، الجهاز الذي يتولى مهمة فرض الانضباط على العسكريين داخل الجيش والذي جاء منه السيسي إلى وزارة الدفاع، وقد أوكل للرجل عدد من الملفات الحيوية، على رأسها التخطيط لذلك المشروع “البايو عسكري”، كما يبدو، وذلك قبل وفاته في حادث سير مع نجله هاني الذي كان رائداً في قطاع الأمن الوطني بالداخلية 2017.
وناهيك عن الحضور العسكري اللافت في المشروع، وتبنيه إعلامياً من الجهاز الدعائي للجيش، والتخطيط العسكري السابق له كما أشار السيسي، فإن هناك توجهاً دعائياً لدى السيسي لتدشين عدد من المناطق المتخصصة في صناعات معينة، على غرار: مدينة الأثاث التي قال إنها كانت حلماً شخصياً له قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، ومدينة الجلود في القاهرة القديمة، ومدينة الذهب، وصولاً إلى مدينة الدواء.. وكلها قرائن، مع شح المعلومات الضرورية، على أننا بصدد مشروع سيادي عملاق في مجال تصنيع الدواء.

جينوم المصريين
بالرغم من ضعف الإرادة الظاهر لدى القيادة السياسية في الإنفاق على القطاعات الخدمية غير الربحية مثل الصحة والتعليم، قياساً على مجالات أخرى كالتسليح والبنية التحتية، إلا أنه وبشكل مفاجئ، أعلنت جهات سياديَّة تبني مشروع ضخم، ملياري التكلفة، لإنشاء خريطة جينية للمصريين.
يقول الخبراء الرسميُّون إن مصر قد تأخرت بعض الشيء في تبني مشروع صحي عملاق مثل مشروع تدشين الجينوم المصري، بالنظر إلى أنّ معظم دول العالم المتقدم، وعدداً من الدول العربية النفطية قد قطعت شوطاً معتبراً في هذا المجال خلال الـ 20 عاماً الأخيرة بالذات.
ولكن اللافت أن هذا المشروع الضخم في تكلفته، الخطير في تخصصه، خرج إلى النور فجأة دون سابق إنذار ودون تمهيد، كما لو كان قد تم تبنيه سياسياً من القيادة الحاكمة في البلاد، بعد عرضه سريعاً من جهة داخلية أو خارجية؛ دون نقاش مجتمعي حقيقي، أو مراجعة تشريعية محكمة.
بالتزامن التقريبي مع إطلاق مشروع الجينوم المصري، أو قبل إطلاقه بفترة قصيرة، قامت دولة الإمارات بإطلاق مشروع الجينوم الإماراتي، في مدينة دبي، مصحوباً بتعاون تقني هائل في مجالات وسيطة بين الصحة والذكاء الصناعي والأمن الحيوي مع كيانات من فرنسا وإسرائيل. كما أن تقارير كثيرة تحدثت سابقاً عن دور إماراتي مكثف في قطاعات صحية متخصصة في مصر، على غرار: المعامل والتجارب السريرية، وتحديداً شركة G42.
إلى جانب التطبيقات المفيدة المعروفة من وراء تحليل الخريطة الجينية لشعب ما، وهو ما تروج له السردية الرسمية في الأساس، مثل الدخول إلى عالم “الطب الشخصي” المفصل على مقاس كل مريض؛ فإن هناك تحذيرات أيضاً من خبراء مستقلون عن خطورة توسع نظام يعد من أكثر الأنظمة استثماراً في الأمن على مستوى العالم قياساً على نسبة الناتج المحلي، مثل النظام المصري، في الأبحاث الخاصة بالأمن الحيوي، في ظل غياب رقابة تشريعية، ولو في حدها الأدنى.
في الأعوام القليلة الأخيرة، توسع النظام المصري بشكل واضح في العناية بالمجالات التي تقع في مناطق وسيطة بين الطب والبيانات والذكاء الاصطناعي، على عكس ترفعه المعتاد عن الاستثمار في الصحة، وهو التوسع الذي ظهر جلياً فيما يعرف بالمبادرات القومية للكشف على المصريين، والتي استهدفت قطاعات محددة مثل الطلاب والنساء.
وتشرف على المشروع جهة عسكرية، هي أيضاً مقره الرئيس، تسمى “مركز البحوث الطبية والطب التجديدي”، والذي يرأسه اللواء طبيب خالد عامر، ويعمل على عقد لقاءات دورية مكثفة مع أكاديمية البحث العلمي لإنجاز المشروع خلال 3 سنوات، تنفيذاً لتوجيهات السيسي.
المشروع القومي للبلازما
البلازما باختصار يلائم غير المتخصصين، هي أحد أشكال الدم، والتي تستخدم في تطبيقات علاجية تخص أطيافاً مرضية معينة، كما تجدد الحديث عنها في الشهور الأخيرة في سياق تناول دورها العلاجي المحتمل عند استخدامها من المتعافين إلى حاملي فيروس كورونا.
يمكن لمعظم البشر التبرع بالبلازما التي تجري في أجسادهم بكثافة لإنقاذ آلاف البشر الذين يحتاجون إليها في رحلة مقاومة أمراض في الأعصاب والمناعة والدم، ولكن المشكلة، كما يقول الخبراء، ليست في الحصول عليها، بقدر ما في يلي ذلك من تجميع وتصنيع وتطبيق لمعايير الجودة، وهي سلسلة من التقنيات المتوافرة لدى دول قليلة في العالم، ليست مصر من بينها إلى الآن.
يقول السيسي كالعادة إن تصنيع البلازما محلياً يعد أحد أحلامه الشخصية من قبل أن يصبح رئيساً للبلاد. بغض النظر عن مدى صدق هذا الادعاء أو دلالته سياسياً، فإن الواقع أن هناك جهوداً حثيثة حالياً، من اجتماعات وتنسيق ولقاءات مع جهات محلية وأجنبية لنقل تلك التكنولوجيا إلى مصر، حيث يبرز اسم شركة “جريفولز” الإسبانية شريكاً أجنبياً رئيساً في هذا المشروع.
ولكن اللافت في كل ذلك، أن الجهات المحلية التخصصية البارزة من جهة الطرف المصري في هذا السياق ليست شركة “فاكسيرا” الحكومية المعروفة وحدها، ولكن أيضاً كياناتٌ عسكرية مختلفة، على رأسها وزارة الإنتاج الحربي من جهة، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية من جهة أخرى.
في نوفمبر/تشرين عام 2020، وقع اللواء مصطفى أمين مدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية اتفاقاً لتأسيس كيان مشترك مع الطرف الإسباني، بنسبة 51% للجهاز العسكري ونسبة غير حاكمة للشركة الأجنبية، ضمن رأسمال مجمع يصل إلى 300 مليون دولار أمريكي، وتتحدث المصادر الرسمية عن تدشين عدد كبير من مراكز التجميع المتخصصة، والتي سيكون مركزها في مدينة السادس من أكتوبر غرب البلاد، على أن يكون المصنع الرئيس في العاصمة الإدارية الجديدة.
