مدونات

كسوف للشمس وخسوف للعقل..ياسر كمال الغرباوي

تعرضت شمس الدوحة يوم الخميس الماضي الموافق 26/12/2019 لكسوف غطَّى وجهها المنير والمثير، والذي طالما سلَّط علينا أشعَّته الحارقة في الصيف اللافح، وجعلنا لا نغادر غرفنا المُغلقة جالسين كالقطط السيامي تحت الميِّكفات الباردة.

ونتج عن هذا الكسوف أن انقسم الناس فريقين: أحدهما جهز نفسه لمشاهدة الكسوف في الأماكن المفتوحة متسلحًا بنظارات واقية من الأشعة الضارة، لكي يراقب الكسوف خطوة بخطوة، وفريق آخر آثَر المُكوث في المساجد، ليكون من القائمين والقانتين في صلاة الكسوف تأسيًّا بالرسول صلى الله عليه وسلم.

أما أنا فقلت لنفسي: مارس فلسفتك في الحياة، التى تسند إلى فكرة محاولة الجمع بين ما يظنه الناس متناقضًا ومتنافرًا؛ إذ خرجتُ من البيت، وصليتُ الفجر ثم غادرت المسجد نحو حديقة واسعة قريبة من مكان سكني، فشاهدت الكسوف أولًا، ثم دخلتُ لأصلى مع القوم، فصليت خلف إمام المسجد الذى قرأ قرابة حزب من سورة البقرة، وبينما نصلِّي حصل ضجيج كبير، تبيَّن لى بعد فترة أن سببه ومصدره هو أطفال الحى الذين وصلوا لساحة المسجد من أجل إدراك الصلاة الغريبة بالنسبة لهم، والتي قلما تتكرر في الزمان والمكان.

انتهت الصلاة، وهممت بمغادرة المسجد، وإذا بالشيخ الذي صلَّى بنا صلاة الكسوف يلقي كلمة بدأها بأن الكسوف الذي حصل اليوم هو علامة غضب من الله الجبَّار على البشرية!! التي تستحق العذاب الأليم، والهلاك المبين، وفي أثناء كلمته أجهش بالبكاء، واستغرق في النحيب، وارتفع صوته بالدعاء، وتجاوب معه الحضور بالتأمين على دعائه.

ولكنى لاحظت في أثناء ذلك كله علامات التعجب والدهشة تعلو وجوه الأطفال؛ لأنهم جاءوا إلى المسجد وهم فَرِحون بالأجواء الجديدة، وبكيفية صلاة الكسوف التى تختلف عن الصلوات الخمس اليومية من حيث عدد الركعات ومرات الركوع والقراءة، فإذا بهم يسمعون كلامًا خلاصته أن ربنا غضبان عليهم، ويمكن أن يخسف بهم الأرض من تحتهم! المهم طلعنا من المسجد على خير، ووقفت مع الأطفال متسائلًا ومستفسرًا عن سر دهشتهم من كلام مولانا الشيخ، فقلت لطفل تونسي كان حاضرًا معنا: ما رأيك فيما حصل في المسجد؟

فقال: الصلاة حلوة، لكنى مرعوب من كلام الشيخ، الذي أخبرنا بأن الله احتمال يخسف بنا البلد! ثم قال: وماذا فعلنا نحن الأطفال حتى يخسف الله بنا الأرض؟ فأشفقتُ على هذا القلب الصغير من القلق الذي أصابه من كلام الشيخ سامحه الله. ثم توجهت بالسؤال إلى طفل سوداني في الصف السادس، قائلًا: ما رأيك في كلام الشيخ؟ فرد مسرعًا بدون تفكير: كلام مولانا ليس صحيحًا! فقلت له: لماذا؟ قال: الكسوف والخسوف أنا درست في المدرسة أنه يحدث من زمان يا أستاذ، فلو كلام الشيخ صحيحًا يعني هذا أن ربنا غضبان علينا من ساعة ما خلق أبونا آدم! فاستغربت من جُرأته وسرعة بداهته واستنتاجه اللطيف.

ثم سألت عبد الله وهو طالب في الصف الثاني الإعدادي نفس السؤال، فجاءت إجابته غريبة بعض الشيء، فقال: الشيخ قال: إن الكسوف والخسوف حصل في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الكسوف والخسوف من علامات عضب الله على الناس، وبهذا الفهم نعتبر أن ربنا كان غاضبًا على النبي والصحابة أيضًا!!، وفي نهاية حواري مع هذه الثلة من الأطفال الأذكياء وجدتُ نفسى منبهرًا من صفاء فطرتهم واتقاد ذهنهم، ولكنى ما زالت منزعجًا من سوء بصيرة الشيخ، فبدلًا من أن يفتح للأطفال والحضور باب التفكير في خلق الله أغلق مسام العقل والوجدان لديهم، وشوَّش علينا بخطاب لاعلاقة له لا بالدين و لا بالعلم؛ لأن فحوى كلامه تؤشر بأن جعل هناك صدامًا بين العقل والدين، أو العلم والشرع.

ولكن الجميل الذي حصل في ختام هذه التجربة الفكرية والوجدانية، هو أننى حاولت أن أُوقد شمعة ولا ألعن الظلام، إذ طرحت سؤالًا على الأطفال فقلت لهم: ما الفرق بين الخسوف الذي يحدث للقمر والكسوف الذي يحصل للشمس؟ وقلت لهم من يأتي بالإجابة الصحيحة ويشرحها لنا ستكون لها جائزة كبيرة، وتوعدانا أن نلتقي بعد يومين في المسجد حتى نسمع الإجابات.

نقلا عن مدونة الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى