يسعى الاحتلال إلى إعادة تعريف قواته من الجيش والشرطة وتقديمها في أثواب دعائية موجّهة للجمهور العربي والمسلم. يأتي في هذا مثلاً؛ مقطع مرئي تظهر فيه إجراءات تجنيد فلسطينيات في شرطة الاحتلال العاملة في القدس، وتروِّجه منصّات الاحتلال الدعائية للعرب والمسلمين.
يعرض المقطع “إنجازات” تزعمها شرطة الاحتلال في هذا التجنيد ويتخطّى الإشارة إلى حالة الرفض والنبذ التي تواجهها هذه الشرطة في المجتمع المقدسي. يتجاهل المقطع الحالة العامة ويركِّز على استثناء يتجاوز موقف الامتناع عن العمل في سلك شرطة الاحتلال.
يعرض المقطع حفلاً جمع المجنّدات على مرأى من التصوير الدعائي، وهو ما يشي باستثنائية الحالة بما اقتضى من دعاية الاحتلال تضخيم الوعي بها، ويتّضح هذا في سلوك الكاميرا التي تحرّت الاستثناء ضمن الاستثناء؛ فتوقّفت عند من تستر شعرها من المجنّدات.
وإذ تحاول دعاية الاحتلال تقديم صورة مزيفة عن الفلسطينية وكأنها تنخرط في صفوفه؛ فإنها تطمس مشاهد جماهير الفلسطينيات اللواتي يتصدّين لقواته في الميدان المقدسي وخارجه، ويرفضن قراراته ويَخُضْن نضالات متواصلة. تختلق مقاطع دعائية كهذا عالماً معزولاً عن واقع مرئي في القدس، بما في ذلك صمود الفلسطينيات في الخان الأحمر وعدم رضوخهن لتهديدات الاحتلال بإخلاء الموقع بما اقتضى سحلهنّ والتنكيل بهنّ.
تحاول دعاية الاحتلال بهذا المقطع وما يشبهه أن تصوُّر هذا التجنيد على أنه من شواهد “المساواة”، لكنه من تجلِّيات الاستخدام والاستعمال والاختراق الذي اعتادت أنظمة الاحتلال والاستعمار ممارسته مع الشعوب المضطهدة. لم تعجز أنظمة الاحتلال والاستعمار عن اقتناص بعض أبناء الشعوب مسلوبة السيادة ليعملوا في صفوف قواتها، دون أن يكسبها ذلك الشرعية أو يجعلها علامة قبول شعبي بالاحتلال. وقد استعصى الشعب الفلسطيني على محاولات كسر الإجماع الشعبي والمجتمعي في الاستعمال ضمن أجهزة الاحتلال رغم كل ما أحرزه الاحتلال في هذا الشأن حتى الآن. ويبقى التحدي قائماً، لأنّ عيْش الفرد تحت سلطة احتلال بأجهزتها ومؤسساتها ومع الصعوبات المعيشية، يجعله مكشوفاً لمحاولة استعماله، بما يمكِّن السلطة الاحتلالية من اقتناص أفراد من الحالات المعزولة مجتمعياً.
أقدمت قيادة الاحتلال في المقطع المرئي عيْنه على استعراض دعائي على أعلى مستوى، بحضور رئيس كيان الاحتلال ذاته، للتباهي بمساعيها المحمومة لتجنيد “عربيات”، وهو ما يقتضي حذراً واحتراساً من هذه الهجمة وفضح أساليبها ومراميها ومقاومتها بخبرات الفلسطينيات والفلسطينيين المتراكمة في مناوأة الاحتلال والتصدي له. فالاحتلال يحاول بدأب تجنيد العربيات في صفوفه من فلسطينيي 48 وشرق القدس لتحقيق مكاسب عدة معلوماتية وعملية وميدانية ونفسية ودعائية؛ ولإيجاد اختراق لتطبيع الحسّ العام، مع استغلال الانطباع بأنّ الشرطة “جهاز مدني” لتسويغ هذا التوظيف.
تضليل مصور في المناسبات الإسلامية
من بين المقاطع المرئية التي تستهدف بها دعاية الاحتلال العرب والمسلمين مكانة خاصة لمقاطع التهاني المضللة التي تبعث بها قيادات الاحتلال والناطقون باسمه في المناسبات الإسلامية. يحاول هؤلاء تجريب وسائل دعائية ساذجة تفترض أنها ستكسب العقول والقلوب بمجرد إلقاء نصوص مشفوعة بابتسامات، وكأنها تتوجه إلى جمهور من فاقدي الذاكرة. وفحوى دعاية التهاني المضللة هذه: لا تصدقوا الحقائق فنحن طيبون حقاً. لكنّ هذه التهاني والمقاطع تواجه معضلتها الجوهرية مع المصداقية الغائبة عنها.
تسعى هذه الرسائل المصوّرة إلى إرباك وعي الجمهور العربي والمسلم من خلال رسائل محدّدة، لتوفير أرضية نفسية وذهنية لمزاعم الاحتلال التقليدية؛ بأنه ليس ضد العرب والمسلمين بل ضد فئات محددة منهم، وأنه يحترم دينهم وثقافتهم و”طقوسهم”، دون أن يقدم براهين عملية بين يدي ذلك سوى الافتعال المصوّر.
ومن خلال مراوغات لفظية في هذه المقاطع يتم إبراز “عدوّ مشترك”، وإعطاء انطباع مضلل عن الاحتلال من خلال إشارات عن “التعايش”، مثلاً من خلال إظهار مجندين في جيش الاحتلال وهم يتحدثون العربية. يُقابل الجمهور العربي هذه المقاطع عادة باستهجان وتندُّر وسخرية، وهو ما يحرِّض على تبادلها ويمكِّن لها من الانتشار الواسع نسبياً.
نقلا عن الجزيرة مباشر