الدولة في مصر لها تاريخ في دعم مواطنيها، حتى لو كان هذا الدعم محدودًا في حدود قدراتها، ولا يفي بالغرض كاملًا، ولا يوفر إلا القليل من الاحتياجات اليومية الضرورية للفرد، لكنه يبقى أحد ثوابت دولة نسب الفقر فيها كبيرة ومؤرقة ولم تستطع القضاء عليه سواء في عهد الملكية أو الجمهورية، ووفق إحصائيات الأجهزة الرسمية فإن ثلث المصريين فقراء، والبنك الدولي يرتفع بالنسبة إلى ما يقرب من الثلثين.
والعهود التي أدارت الدولة لم تشتكِ يومًا من أعباء الدعم، أو تُشعر الناس بأن ما يحصلون عليه فوق طاقتها، أو تحذرهم، أو تقطع عنهم شيئًا، إلا في المرحلة الحالية، حيث تكثر الشكوى من الفقر وعدم وجود المال عندما يتعلق الأمر بأحد أشكال الدعم الذي يتقلص تدريجيًّا، ويقترب من إلغائه كاملًا من كهرباء ومياه وطاقة وغاز ومواصلات عامة إلى السلع التموينية التي تتراجع قيمتها ويصعب إلغاؤها كلّيًّا، علمًا بأن الأوضاع الاقتصادية كانت معقدة في بعض المراحل؛ من عهد عبد الناصر إلى السادات ثم مبارك، وما بعد يناير، ومع هذا كانت كل سلطة تواصل الدعم، وتعتبره حقًّا للفرد واجبًا على الدولة، وكانت هناك دعوات فقط لإصلاحه وإيصاله إلى مستحقيه.
نسبة الفقر:
وتقديري أن نسبة الفقر في المرحلة الحالية أكبر مما يعلنه جهاز التعبئة والإحصاء، فمع توالي ارتفاع الأسعار في كل السلع والخدمات، وهو شامل ينال كلّ شيء، وارتفاع كلفة الحياة بشكل غير مسبوق، واستمرار التضخم والركود، وتآكل المدخرات، ومصاعب استمرارية الادخار، والبطالة، وتزايد الإنفاق الأسري الاضطراري على التعليم والصحة في المرافق الخاصة، فإن النتيجة الطبيعية هي سقوط المزيد من الناس تحت خط الفقر، ووضع نهاية للطبقة الوسطى، بل تأزّم شرائح من طبقة ما فوق الوسطى، وأن لا يبقى شبه مطمئن إلا شرائح عليا، ولا أقول إن هذه الشرائح مطمئنة تمامًا؛ إذ إن حالة من عدم اليقين تهيمن على الأغنياء ومن يجلسون على قمة الهرم الاجتماعي أيضًا.
ومن قراءة قضايا الفساد المعلنة، التي تورّطت فيها شخصيات في وظائف عليا، نستنتج أن هذا الفساد ليس رغبة في تخزين المال وتحصيل المنافع فقط، وإنما هناك قلق غالبًا من قادم الأيام من شخصيات وفئات تعيش بالفعل حياة جيدة، بل رغيدة، فماذا يفعل من يعش يومًا بيوم، أو من ليس له عمل ثابت، أو لديه أعباء عائلية كبيرة؟
وقد صار المعتاد أن الأسعار في صعود، ولا تتوقف فترة زمنية عند أيّ مستوى تصل إليه، والتبشير بالعام الجديد 2022 لم يكن بأخبار سارة تخفف الضغوط المعيشية، وتبث السعادة والأمان، وإنما بالحديث عن ارتفاعات سعرية جديدة، لا في الطعام وسلع الاستهلاك فقط بل في كل ما يستخدمه الإنسان في حياته.
وهذه مشكلة يجب أن تؤرق أيّ سلطة، حتى لو كانت تحكم بشكل فردي دون معارضة ذات صوت واضح، أو إعلام مستقل، أو منظمات مجتمع مدني، أو فاعلية مؤسسات الرقابة والمحاسبة الشعبية ممثلة في سلطة تشريعية تقوم بدورها كما يجب تجاه السلطة التنفيذية.
القاعدة الشعبية
يجب حقًّا الانتباه إلى الشارع، وإلى الناس، ورصد ما يجري، والإنصات لما يُقال؛ فالقاعدة الشعبية اليوم لم تعد كما كانت بالأمس، الأصوات في الإعلام، والكتائب الإلكترونية، والشرائح المتحلقة حول السلطة ليست هى الكتلة الغالبة، ولا هى صوت الحقيقة أو السد المنيع أو الضامن من الاهتزاز. هذه فئات محدودة تعبر عن نفسها، ومن يوجهها فقط، والأساس في شعبية أي سلطة واطمئنانها لسلامة سياساتها هو القاعدة الشعبية العامة الواسعة، عموم الناس، من لا صوت لهم، ولا مصالح بينهم وبين الحكم، ولا وظائف ومناصب تجعل لهم مصلحة في تبني مقولات لا تعكس حقائق الواقع.
السياسات تُوضع والقرارات تصدر لخدمة المواطنين، ويجب أن تُبنى على نقاشات عميقة، وحوارات مجتمعية، والاستماع لوجهات النظر الأخرى، لكن استنتاجنا أن المواطن غير حاضر بشكل واضح في قلب صياغة السياسات، ولهذا يكون العدول عن تشريعات وقرارات قبل تنفيذها ترجمة لصدورها بمعزل عن الجمهور، وعدم تلبيتها لحاجاتهم أو قبولهم لها، مثل رسوم غرامات التصالح في قانون البناء التي تم تخفيضها مرات، وتعديلات قانون الشهر العقاري الذي تم الغاؤه قبل تنفيذه.
دعم الخبز
الدعم يتقلص في حين يجب أن يزداد، أو يكون هناك ارتفاع في مستوى الأجور والدخول ومعاشات التقاعد، صحيح أن هناك من ينفقون، ولكن صحيح أيضًا أن أضعاف هؤلاء لا ينفقون، وإنفاقهم المحدود ينحصر في موازنة الطعام والشراب والملبس والمسكن والصحة والتعليم، كل مداخيلهم موجهة للأساسيات، ومن لديهم أكثر من مصدر للدخل، فإنهم يشتكون ويشعرون بالمخاوف، وأنا أعيش وأستمع لحكايات مثيرة من هذا القبيل.
كل فرد حاليًّا مقرر له خمسون جنيهًا شهريًّا يأخذ مقابلها سلعًا، هذا المبلغ لا يكفي لتناول مشروب في كافيه، أو شراء وجبة من أحد مطاعم الوجبات الجاهزة، ولا يكاد يكفي لشراء لترين من الزيت، أو كيسين من السكر ونصف كيلو من الأرز، ويحصل عليه أربعة أفراد في البطاقة، وإذا كان هناك فرد خامس فإن الدعم ينخفض له إلى خمسة وعشرين جنيهًا فقط، ثم يتوقف عن من زاد على هذا العدد.
ودعم الخبز عبارة عن خمسة أرغفة يوميًّا للفرد، وبعض المخابز تُنتج خبزًا لا يُؤكل لغياب الرقابة عليها، والمخابز الملتزمة يخرج الرغيف منها معقولًا، وهناك مخابز تُعد رغيفًا محسّنًا ووزنه أكبر، والمستفيد من خدمة الخبز المجاني لا يحصل على هذا الرغيف المحسّن مجانًا، وإنما يدفع مبلغًا من جيبه عن كل رغيف، وهو يتراوح بين عشرة قروش وعشرين قرشًا، وتقديري أن هناك مبالغة في حساب التكلفة التي تعلنها الحكومة للرغيف الذي انخفض وزنه إلى تسعين غرامًا، وهى سبعة وستون قرشًا، ومنظومة الخبز بحاجة للرقابة المشددة، وفرض الانضباط، منعًا للهدر والتلاعب في أقوات الناس، وربما يكون الدعم النقدي حلًّا، لكنه بحاجة لدراسة معمّقة.
ليس مبلغاً مغريًّا