
استبقت صحف غربية بارزة منها «نيويورك تايمز» الذكرى الثانية لوفاة الرئيس المصري المخلوع الراحل محمد حسني مبارك بتسريبات حول ثروته وأسرته، وفي توقيت غريب ومريب أصرت الحملة الصادرةعن بنك سويسري والتي امتدت حتى أيام مضت على تأكيد سابق تسريبات أوراق بنما في 2016م وغيرها أن الرجل ترك من خلفه لأسرته 70 مليار دولار، وهو رقم يحار غير المتصالحين مع بيع النفس من أجل المال في عدَّ رقم أصفاره التي يساوي كل منها حياة أجيال مقبلة في راحة وطمأنينة ربما ليوم القيامة، فالمبلغ يساوي ألف ألف مليون دولار، أو مليون مليون دولار، أو رقم سبعين وإلى جواره أثنا عشر صفرًا، وعند ضرب المبلغ في 15.5 تقريبًا وصولالمقابله بالجنيه المصري ليصبح المبلغ غير عادي، بل لعله يكفي كل مصري من أكثر من مائة مليون ونيف ليحيا كل منهم في هدوء ودعة وطمأنينة، يعود العائد من الغربة ويخرج المسجون ليتوب إلى يوم يدفن، ويكف المشاغب ويهدأ المارق، ولأن هذا لن يكون فإن عشرات الملايين من المصريين يتساءلون عن: «من أين جاء لمبارك وأبنائه وزوجته كل هذا؟» وما القدرات الخاصة «الشريفة» التي وهبوها ليجمعوه؟
وما مقدار ذكاء واستيعاب مبارك ليترك لثلاثة أفراد يمثلون اسرته هذا المبلغ الفخيم، كما تساءل كثيرون من قبل حول سبب بناء الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك لقبر تكلف 15 مليون جنيه في عام 2009م، أو ما يوازي قرابة مليون دولار (بأسعار اليوم)؛ بالإضافة لوجود القبر على مساحة 1000 متر في منطقة «أرض الغولف» بمصر الجديدة قريبًا من محطة مترو أنفاق «كلية البنات» والقصر الجمهوري؛ مع احتوائه على موقف للسيارات، وغرف فاخرة لاستقبال الضيوف وهاتف دولي وأسوار شاهقة وكشافات قوية وحديقة.. وكانت مادة التساؤل وما تزال: ما قيمة وأهمية كل هذا لمُتوفىً؟ والحقيقة أن المبلغ الذي يساوي مليون دولار فكة أو قروش أو عدة «فلسات» مقابل 70 مليارا، ولكن لماذا ينفق مبارك هذا المبلغ الزهيد على قبر لن تزيد فخامته في «وجاهة» دفن جثمانه في التراب، مع الاحترام إلى أن جميع البشر سيلقون نفس المصير عاجلاأم غير هذا؟ أو بمعنى أصح لماذا كنز مبارك كل هذه المليارات من الدولارات وهو يعرف أنه سيذهب للقبر وأن الكفن بلا جيوب كما قال في أوائل تصريحاته عقب الرئاسة؟
والحقيقة أن الإنفاق على القبر يرجع إلى أسباب تتعلق بالمخلوع نفسه، لا النسق الفرعوني في دفن الموتى وترك نفائسهم معهم استعدادًا لعودتهم للحياة؛ ولا حتى الأسطورة الفرعونية القائلة بالتفاخر بالنفس ولو بعد الممات، وإن كانت المنطقة التي شيدت فيها شركة «المقاولون العرب» الحكومية القبر مليئة بمقابر المُمثلين وكبار الشخصيات من ذوي الهيئة والنفوذ ومنهم «آل ثابت» أو عائلة قرينة المخلوع؛ ومن المُسلم به أن قبر الأخير الأفخم بينها، بالسجاد الإيراني الفاخر؛ والرخام الفرنسي المميز الطارد للحشرات.
وحتى إن جاز قبول السببين السابقين في بناء مبارك للقبر على النسق الفرعوني لحبه التفاخر بالنفس حتى بعد الموت، ومن ذلك حبه لإبقاء مبلغ من المال يندر أن يتركه آخرون، فضلاعن أن يكونوا في مستوى ذكائه، والأولى من كل ذلك أن مبارك أراد الاستمرار على طريق «منظومة التفاهة» التي اعتادها؛ وهي التي جعلته أثناء دراسته في الكلية الحربية يحرص على الاستيقاظ من النوم بالقفز من السرير مباشرة إلى ساحة التدريب الصباحي عبر النافذة، لا الباب ثم دورة المياه كما كان يفعل زملاؤه، وذلك حسب ما راوه الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه: «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان»؛ هذه القفزة الصباحية من السرير لساحة التدريب كانت لإثبات جديته أمام أساتذته وتفانيه في التبكير للطابور.
عاش الرجل إذن متكاسلاعن أداء ضروري المهام الحياتية مستعيضًا عنها بالأمور الساذجة الجانبية التي يظنها تجعله بالغ التمايز عن الآخرين؛ من مثل البذل الفخمة المستوردة التي كانت تحيكها بعض مصانع الغرب خصيصًا له بسعر قيل إنه 10 آلاف دولار، لأن مبارك كان يطلب من المصنع أن ينسج اسمه على القماش كله بالإنجليزية، رغم أنه لم يكن يرتدي البذلة إلا لمرة واحدة.
عاش مبارك متماديًا في الاستخفاف بمن حوله باسم الطرافة الساذجة المفتعلة والجميع يستحيي من أن يذكر له أن بعض كلماته لا معنى أو حتى نظير لها